كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكانت تلك القصة منتظمة في هذا السلك الشريف سلك إيتاء الفرقان والهدى والرشد والإرشاد إلى الخير والحكم والعلم.
وكان في قصة داود وسليمان تنبيه على أصل الاجتهاد وعلى فقه القضاء فلذلك خُص داود وسليمان بشيء من تفصيل أخبارهما فيكون {داود} عطفًا على {نوحًا في قوله ونُوحًا} [الأنبياء: 76]، أي وآتينا داود وسليمان حكمًا وعلمًا إذ يحكمان...إلى آخره.
فـ: {إذْ يحكمان} متعلق بـ: {آتينا} المحذوف، أي كان وقتُ حكمهما في قضية الحرث مظهَرًا من مظاهر حُكمهما وعلمهِما.
والحُكم: الحِكمة، وهو النبوءة.
والعلمُ: أصالة الفهم.
و{وإذ نفشت} متعلق بـ: {يحكمان}.
فهذه القضية التي تضمنتها الآية مظهر من مظاهر العدل ومبالغ تدقيق فقه القضاء، والجمع بين المصالح والتفاضل بين مراتب الاجتهاد، واختلاف طرق القضاء بالحق مع كون الحق حاصلًا للمحِق، فمضمونها أنها الفقه في الدين الذي جاء به المرسلون من قبل.
وخلاصتها أن داود جلس للقضاء بين الناس، وكان ابنه سُليمان حينئذ يافعًا فكان يجلس خارج باب بيت القضاء.
فاختصم إلى داود رجلان أحدهما عامل في حرث لجماعة في زرع أو كرم، والآخر راعِي غنم لجماعة، فدخلت الغنم الحرث ليلًا فأفسدت ما فيه فقضى داود أن تُعطى الغنم لأصحاب الحرث إذ كان ثَمن تلك الغنم يساوي ثمن ما تلف من ذلك الحرث، فلما حكم بذلك وخرج الخصمان فَقُصّ أمرُهما على سليمان، فقال: لو كنتُ أنا قاضيًا لحكمت بغير هذا.
فبلغ ذلك داود فأحضره وقال له: بماذا كنت تقضي؟ قال: إني رأيت ما هو أرفق بالجميع.
قال: وما هو؟ قال: أن يأخذ أصحابُ الغنم الحرثَ يقوم عليه عاملُهم ويُصلحه عامًا كاملًا حتى يعود كما كان ويرده إلى أصحابه، وأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم تُسلم لراعيهم فينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها في تلك المدة فإذا كَمل الحرث وعاد إلى حاله الأول صرف إلى كل فريق ما كان له.
فقال داود: وُفّقت يا بُني.
وقضى بينهما بذلك.
فمعنى {نفشت فيه} دخلته ليلًا، قالوا: والنفش الانفلات للرعي ليلًا.
وأضيف الغنم إلى القوم لأنها كانت لجماعة من الناس كما يؤخذ من قوله تعالى: {غنم القوم}.
وكذلك كان الحرث شركة بين أناس.
كما يؤخذ مما أخرجه ابن جرير في تفسيره من كلام مجاهد ومرة وقتادة، وما أخرجه ابن كثير في تفسيره عن مسروق من رواية ابن أبي حاتم. وهو ظاهر تقرير الكشاف.
وأما ما ورد في الروايات الأخرى من ذكر رجلين فإنما يحمل على أن اللذين حضرا للخصومة هما راعي الغنم وعامل الحرث.
واعلم أن مقتضى عطف داود وسليمان على إبراهيم ومقتضى قوله: {وكنا لحكمهم شاهدين} أي عالمين وقوله تعالى: {وكلًا آتينا حكمًا وعلمًا} ومقتضى وقوع الحُكمين في قضية واحدة وفي وقت واحد، إذ إن الحُكمين لم يكونا عن وحي من الله وأنهما إنما كانا عن علم أُوتيه داود وسليمان، فذلك من القضاء بالاجتهاد.
وهو جار على القول الصحيح من جواز الاجتهاد للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام ووقوعِه في مختلف المسائل.
وقد كان قضاء داود حقًّا لأنه مستند إلى غرْم الأضرار على المتسببين في إهمال الغنم، وأصل الغرْم أن يكون تعويضًا ناجزًا فكان ذلك القضاء حقًّا.
وحسبك أنه موافق لما جاءت به السنة في إفساد المواشي.
وكان حكم سليمان حقًّا لأنه مستند إلى إعطاء الحق لذويه مع إرفاق المحقوقين باستيفاء مالهم إلى حين فهو يشبه الصلح.
ولعل أصحاب الغنم لم يكن لهم سواها كما هو الغالب، وقَد رضي الخصمان بحكم سليمان لأن الخصمين كانا من أهل الإنصاف لا من أهل الاعتساف، ولو لم يرضيا لكان المصير إلى حكم داود إذ ليس الإرفاق بواجب.
ونظير ذلك قضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة بأن يمر الماء من العُرَيض على أرضه إلى أرض الضحاك بن خليفة وقال لمحمد بن مسلمة: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع؟ فقال محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليَمرنّ به ولو على بَطنك، ففعل الضحاك.
وذلك أن عمر علم أنهما من أهل الفضل وأنهما يرضيان لما عزم عليهما، فكان قضاء سليمان أرجح.
وتشبه هذه القضية قضاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزبير والأنصاري في السقي من ماء شراج الحَرّة إذ قضى أول مرة بأن يُمسك الزبيرُ الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الماء إلى جاره، فلما لم يرض الأنصاري قضى رسول الله بأن يمسك الزبير الماء حتى يبلغ الجَدر ثم يُرسل، فاستوفى للزبير حقه.
وإنما ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأرفق ثم لما لم يرض أحد الخصمين قضى بينهما بالفصل، فكان قضاء النبي مبتدأ بأفضل الوجهين على نحو قضاء سليمان.
فمعنى قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} أنه ألهمهُ وجهًا آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق.
وذلك أنه أرفقُ بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح، والمرجحات لا تنحصر، وقد لا تبدو للمجتهد، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به، وليتعزى على مَن فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان.
وحسبك أنّه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير، وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة.
وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد، وفي العمل بالراجح، وفي مراتب الترجيح، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المُعارض لقوله تعالى: {وكلًا آتينا حكمًا وعلمًا} في معرض الثناء عليهما.
وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلًا في رجوع الحاكم عن حكمه، كما قال ابن عطية وابن العربي؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنّة الصحيحة، فلا ينبغي أن يكون تأصيلًا وأن ما حَاولاه من ذلك غفلة.
وإضافة حكم إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين.
وتأنيث الضمير في قوله: {ففهمناها} ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ، على تأويل الحكم في قوله تعالى: {لحكمهم} بمعنى الحكومة أو الخصومة.
وجملة {وكلًا آتينا حكمًا وعلمًا} تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داود كان خطأ أو جورًا وإنما كان حكم سليمان أصوب.
وتقدمت ترجمة داود عليه السلام عند قوله تعالى: {وآتينا داود زبورا} في [سورة النساء: 163]، وقوله تعالى: {ومن ذريته داود} في [سورة الأنعام: 84].
وتقدمت ترجمة سليمان عليه السلام عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} في [سورة البقرة: 102].
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فاعلين} هذه مزية اختصّ بها داود وهي تسخير الجبال له وهو الذي بينته جملة {يُسَبّحنْ} فهي إما بيان لجملة {سخرنا} أو حال مبينة.
وذكرها هنا استطراد وإدماج.
{والطير} عطف على {الجبال} أو مفعول معه، أي مع الطير يعني طير الجبال.
و{مع} ظرف متعلق بـ فعل {يسبحن} وقُدم على متعلّقه للاهتمام به لإظهار كرامة داود، فيكون المعنى: أن داود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبالَ تسبّح مثل تسبيحه.
وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى: {يا جبال أوبي معه} [سبأ: 10] إذ التأويب الترجيع، مشتق من الأوب وهو الرجوع.
وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرّد تغريدًا مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له.
ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلًا له بعد أن أُوتي النبوءة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله، ولا يعرف لداود بعد أن أُوتي النبوءة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان من قبل النبوءة راعيًا.
فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية زيف الذي به كهف كان يأوي إليه داود مع أصحابه الملتفّين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فارًا من الملك شاول طالوت حين تنكر له شاول بوشاية بعض حُساد داود، كما حكي في الإصحاحين 23- 24 من سفر صمويل الأول.
وهذا سرّ التعبير بـ مع متعلقةً بفعل {سخرنا} هنا.
وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي {ولسليمان الريح} [الأنبياء: 81] إذ عدي فعل التسخير الذي نابَت عنه واو العطف بلام الملك.
وكذلك جاء لفظ مع في آية [سورة سبأ: 10] {يا جبال أوبي معه} وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده.
وجملة {وكنا فاعلين} معترضة بين الإخبار عما أوتيه داود.
وفاعل هنا بمعنى قادر، لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه.
وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل، أي وكنا قادرين على ذلك.
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ}.
وامتن الله بصنعة علّمها داود فانتفع بها الناس وهي صنعة الدروع، أي درُوع السرد.
قيل كانت الدروع من قبللِ داود ذات حَراشف من الحديد، فكانت تثقل على الكُماة إذا لبسوها فألهم الله داود صنع دُروع الحَلَق الدقيقة فهي أخف محملًا وأحسن وقاية.
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر صمويل الأول أن جالوت الفلسطيني خرج لمبارزة داود لابسًا درعًا حَرشفيًا، فكانت الدروع الحرشفية مستعملة في وقت شباب داود فاستعمل العرب دروع السرد.
واشتهر عند العرب، ولقد أجاد كعب بن زهير وصفها بقوله:
شمّ العَرانين أبَطال لَبُوسُهم ** من نَسج داود في الهيجا سرابيل

بيض سَوابغ قد شُكت لها حلَق ** كأنها حلَق القَفعاء مجدول

وكانت الدروع التُّبَّعية مشهورة عند العرب فلعل تُبّعًا اقتبسها من بني إسرائيل بعد داود أو لعل الدروع التبعية كانت من ذات الحراشف، وقد جمعها النابغة بقوله:
وكلَ صموت نِثلة تبّعية ** ونَسْج سُلَيْم كلّ قَمصاء ذَائِل

أراد بسليم ترخيم سليمان، يعني سليمان بن داود، فنسب عمل أبيه إليه لأنه كان مدخِرًا لها.
واللبوس بفتح اللام أصله اسم لكل ما يُلبس فهو فَعول بمعنى مفعول مثل رَسول.
وغلب إطلاقه على ما يُلبس من لامة الحرب من الحديد، وهو الدرع فلا يطلق على الدرع لِباس ويطلق عليها لبوس كما يطلق لَبوس على الثياب.
وقال ابن عطية: اللبوس في اللغة السلاح فمنه الرمح ومنه قول الشاعر وهو أبو كبير الهذلي.
ومعي لَبُوس للبئيس كأنه ** رَوق بجبهة ذي نِعاج مجفل

وقرأ الجمهور {ليُحْصِنكم} بالمثناة التحتية على ظاهر إضمار لفظ {لَبوس}.
وإسناد الإحصَان إلى اللبوس إسناد مجازي.
وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بالمثناة الفوقية على تأويل معنى {لَبوس} بالدرع، وهي مؤنثة، وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويس عن يعقوب {لنحصنكم} بالنون.
وضمائر الخطاب في {لكم ليحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون} موجهة إلى المشركين تبعًا لقوله تعالى قبل ذلك: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون} [الأنبياء: 50] لأنهم أهملوا شكر نعم الله تعالى التي منها هذه النعمة إذ عبدوا غيره.
والإحصان: الوقاية والحماية.
والبأس: الحرب.
ولذلك كان الاستفهام في قوله تعالى: {فهل أنتم شاكرون} مستعملًا في استبطاء عدم الشكر ومكنّى به عن الأمر بالشكر.
وكان العدول عن إيلاء هل الاستفهامية بجملة فعلية إلى الجملة الاسمية مع أن لـ: هل مزيد اختصاص بالفعل، فلم يقل: فهل تشكرون، وعدل إلى {فهل أنتم شاكرون} ليدلّ العدول عن الفعلية إلى الاسمية على ما تقتضيه الاسمية من معنى الثبات والاستمرار، أي فهل تقرر شكركم وثبت لأن تقرر الشكر هو الشأن في مقابلة هذه النعمة نظير قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون في آية تحريم الخمر} [المائدة: 91]. اهـ.